ShaMs

"و بقول كلام موزون, القى الصدى يرجع كلام دايخ"

Saturday, March 26, 2005

راسبوتين الصغير

بعد صمت طويل أطل علينا يوم السبت 12 مارس 2005 الفنان الشاب أحمد الفيشاوي في برنامج "البيت بيتك" الذي استضافه ومهندسة الديكور هند الحناوي مع الشيخ جمال قطب أحد المشايخ السابقين بلجنة الفتوى ليدلي بدلوه في قضية إثبات النسب المرفوعة ضده من المهندسة هند. وخلاصة ما قاله هو اعترافه بعلاقة جنسية وأنها تمت خارج إطار الزواج مع كمية لا بأس بها من اللغو المتستر بالدين الذي أصبح الفنان الشاب من فرسانه الجدد ويتكسب من ورائه في الفضائيات العربية.


استخدم الفنان الداعية نفس حجج راسبوتين رجل الدين الروسي الشهير قبل الثورة الروسية من أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابين (وهي مقولات دينية صحيحة) ولكن ما أضافه كل من راسبوتين الكبير وراسبوتين الصغير هي الخطأ عن عمد ثم التوبة والخطأ والتوبة في دائرة لا نهائية وفي كل مرة يتضاعف الثواب. وقد نجح راسبوتين الكبير باستخدام هذه النظرية في الإيقاع بالعديد من نساء الأرستقراطية الروسية.


النوع الوحيد من الزواج الذي أعرفه هو الزواج الموثق ولا أعترف بما يسمى بالزواج العرفي الذي انتشر مع ما يسميه البعض بالصحوة الإسلامية حيث أصبح الهم الشاغل للمجتمع البحث عن فتوى. وسمعنا عن الزواج العرفي وزواج المسيار وزواج المتعة وكلها أغطية لعلاقات جنسية صريحة ولا هدف لها إلا الجنس. وتقر بعض المجتمعات العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج وتسمح بها دون الحاجة للنفاق والتسربل بالفتاوى التي تحلل الحرام. وحينما كنت طالبا بالجامعة منذ أكثر من ثلاثين عاما - قبل الصحوة الإسلامية - لم يكن النفاق قد انتشر ولم نسمع عن زواجا عرفيا كالمنتشر الآن. وقد شهدت بعض حالات الزواج السري بين المحبين من الزملاء والزميلات في ذلك الوقت وكان معناه الوحيد هو أن يذهب المحبين – دون علم الأهل - بصحبة أصدقائهم إلى المأذون لعقد القران. ولن أدخل في جدل حول مدى صحة أو خطأ هذا النوع من الزواج فليس هذا موضوعنا الآن. المهم من وجهة نظري هو استعداد الشباب في تلك الأيام لتحمل مسئوليتهم بتوثيق هذا الزواج رغم سريته على الأهل. أما في زمن الصحوة فالزواج العرفي هو وسيلة للاستمتاع بمزايا الزواج مع اتاحة الفرصة للشاب بأن يتنصل من مسئولياته بسرقة الورقة العرفية إن وجدت أو بالإدعاء كما فعل راسبوتين الصغير بأنها مجرد علاقة زنا .... يا سلام.


أما الشيخ جمال قطب رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا فقد كان كغيره من الأزهريين الذين تقاس معرفتهم وعلمهم بمقدار ما استظهروه وحفظوه من كتب السلف التي اصفر ورقها من القدم دون أن يعملوا عقولهم أو يستخدموا أدوات العصر الذي يعيشون فيه، ويظنون أن الزمن قد أكسب هذه الكتب الصفراء قداسة وأنها كلام وحكم الله. وكلنا نعاني من فهم هؤلاء لما ورد في القرآن الكريم عن تحديد بدايات الشهور العربية والتي لم يكن من الممكن تحديدها في فترة نزول القرآن بأي وسيلة أخرى غير رؤية العين بينما في عصرنا الراهن يتم إرسال مركبة إلى الفضاء ويقول العلماء أنها ستصل إلى كوكب كذا في يوم كذا الساعة كذا .... وتصل فعلا في التوقيت المحدد بعد إطلاقها بأعوام. وكلنا لا زال يذكر فضيحة تغيير موعد عيد الأضحى بعد الإعلان عنه ببضعة أيام.


لقد ردد الشيخ شروط الزواج الصحيح وخرج علينا بأن الولد للفراش (يقصد فراش الزوجية) أي ينسب للزوج حتى ولم يكن هو الأب الحقيقي. وبالطبع حين وضعت هذه القاعدة لم تكن هناك أي وسيلة للتيقن من انتساب الأولاد بيولوجيا للأبوين، ولحماية الأبناء أساسا من إدعاءات بعض الآباء نكاية في زوجاتهم عند وجود خلافات زوجية أو لغيرها من أسباب فقد وضعت هذه القاعدة الرحيمة. أما سيدنا الشيخ فيرى أنها عقوبة للزوج المقصر (جنسيا!) سواء بسبب السفر أو الهجر أو حتى المرض. المهم أن عدم استخدام أدوات ومعارف العصر يخرج الشريعة عن مقاصدها وأذكر في هذا السياق أنه منذ نحو ثلاثين سنة كتب الأستاذ النابغة السعدي الذي كان مشرفا على صفحة الحوادث بجريدة الأخبار أن إحدى المحاكم في مصر قد نسبت رضيعا عمره شهرين لرجل كان مسافرا للعمل بالخارج لمدة ثلاث سنوات وجاء في حيثيات الحكم أنه "قد يكون أتى زوجته على جناح الجن". ويرى فضيلة الشيخ أنه بالنسبة لأبناء السفاح فإذا اعترف الأب بهم يكون ثواب للأب وإذا لم يعترف فلا تثريب عليه، وقد أمسك بهذه النقطة راسبوتين الشاب وظل يردد طوال ظهوره في البرنامج أنه إذا اعترف يثاب وأن الأمر متروك له مما يوحي بأنه ليس في حاجة لهذا الثواب، ربما لأن ما يحصل عليه من دورة الخطأ والتوبة أكبر وأبقى فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وأخذ منه الشيخ الكلمة وأضاف أن ابن الزنا لا يرث حتى ولو اعترف به الأب!!! المسألة إذن مسألة ميراث ولا أظن أنه شرع الله فسبحان الله عن الظلم وهو العدل الرحمن الرحيم. ما ذنب الطفل أو الطفلة الذي يأتي من سفاح هل سؤل أحدنا قبل مولده عن الأب أو الأم الذين يريدهما لنفسه بحيث يحاسب (أو يثاب) عن هذا الاختيار.


أما ترك موضوع الاعتراف بالنسب متوقفا على إرادة الأب فقط - بناء على ما جاء بكتب الفقه – دون تفهم لحقيقة مقصدها ودون الاحتكام إلى العلم فهو مناف لروح الدين ومقاصد الشرع. وقد كان الاعتراف هو الوسيلة الوحيدة الممكنة في هذه العصور الغابرة. أما الآن في عصر العلم نستطيع دون اللجوء إلى الجان أو المشايخ أن نتأكد من تحليل الحمض النووي للخلية (الدنا) أن نعرف من هو الأب ومن هي الأم، كما نستطيع ومنذ عقود أن نعرف اللص ببصمة أصبع تركها على الخزانة. وفي حالة راسبوتين الصغير فقد قررت المحكمة استخدام تحليل الدنا الذي طلبته المدعية عليه فإذا ثبت أنه الأب البيولوجي للطفلة "لينا" فسوف تحكم المحكمة بثبوت النسب دون الحاجة لاعترافه وستحرمه من الثواب الذي أفتى به الشيخ.


وأخيرا أظن أن الغرض من هذا البرنامج الذي قدمه الأستاذ محمود سعد الذي سبق له أن قدم في أحد برامجه الرمضانية الفنان فاروق الفيشاوي حول نفس الموضوع، هو الإساءة إلى المهندسة هند الحناوي وأهلها، ولكن في حقيقة الأمر فإن الموقف الوحيد الذي يبعث على الاحترام هو موقف هند الحناوي نفسها التي اعترفت بشجاعة بخطآها وتحملت مسئولية النتائج. ولقد توقفت طويلا عند قولها "لا أستطيع أن أعالج خطأ بخطأ آخر" وأعملت فيه النظر واستعرضت كيف كنا نعالج الأمر في مجتمعنا حتى الآن؟ ووجدت أنه إذا ما تورطت فتاه في علاقة وحملت فالأمر لا يخرج عن الاحتمالات الأربعة التالية: إذا كانت في الصعيد أو الريف تقتل ويقتل معها الجنين، إذا كانت في المدينة وتستطيع التصرف تجهض نفسها ويموت الجنين وتقوم بعملية ترقيع لغشاء البكارة، إذا كانت قليلة الخبرة وولدت بالفعل إما تقتل المولود أو تتركه على باب أحد الجوامع. في جميع هذه الحالات يتحمل الجنين/المولود النتائج إما وحده أو بمشاركة أمه. أما الشريك اللآخر (الأب) فيظل بعيدا عن أي مسئولية وكان الله بالسر عليم.


الآن وبعد واقعة هند الحناوي يستطيع الأبناء الذين ولدوا خارج إطار الزواج أن يدافعوا عن حقوقهم في الحياه والنسب لآبائهم، ولن يستطيع راسبوتين آخر أن ينجو بفعلته ثم يعطينا عبر الفضائيات دروسا في الرجولة وتحمل المسئولية وبناء الإنسان المسلم.


بقلم

د. محمد منير مجاهد

0 Comments:

Post a Comment

<< Home